العروبيون المغاربة وعقدة الدونية

بقلم: ميمون أمسبريذ

لقد أسهب المثقفون الأمازيغيون في النقد النظري والتاريخي للأيديولوجيا العروبية في المغرب؛ فكشفوا عن مسلماتها ومصادراتها، وأماطوا اللثام عن ميكانيزمات اشتغال خطابها، وأدانوا أضاليلها وأباطيلها بما لا يترك مجالا لمزيد.

أما وقد أنجز نقد العقل العروبي فإنه من المطلوب التصدي لنقد "البراكسيس" أو الممارسة أو السلوك الذي يتغذى، عن وعي أو غير وعي، من مقولات ذلك العقل.

وبما أن عصرنا هذا عصر وسائط الاتصال بامتياز، وبما أن هذه الوسائط مملوكة في المغرب لحملة هذا العقل ومسخرة لنشر نتاجاته وترويج مشتقاته، فإنه يمكن اعتبارها عن حق المجال الأنسب لرصد تجلياته وملاحظة أعراضه، أقول -أعراض- لأن الأمر يتعلق في الواقع بباطولوجيا لا بايديولوجيا.

في هذا السياق تندرج المساهمات المتواضعة لكاتب هذه السطور إلى جانب غيره من كتاب ثاويزا. إن المتصدي لهذه المهمة، والحال كما ذكرت، لا تعوزه المادة ولا تنقصه العينات. وكل ما عليه هو أن يتصف بأكبر قدر من المازوشية وأن يتسلح بقدر أكبر منه من الملح يستعين به على مقاومة الشعور بالقرف والغثيان وهو يظطلع بمهمته. صعوبة واحدة يواجهها هي تلك المتمثلة في حيرة الاختيار ضمن هذا السيل العرم من السلوكات والمواقف التي تنم عما يمكن تسميته عقدة العروبة لدى المشتغلين بهذه الوسائط. وإذا تجاوزنا حشو الإذاعة والتلفزيون بالمادة الشرق-أوسطية على مدار الساعة، وتغاضينا عن هذه العادة شبه الميكانيكية لدى المقدمين والمنشطين والمتمثلة في زرع مشتقات مادة "ع ر ب" في كل جملة ينطقون بها تقريبا... أقول إذا تجاوزنا ذلك واقتصرنا على الموقف النمطي للمعنيين إزاء العروبة وجدناه يتلخص فيما يعرف في علم النفس المرضي بعقدة الدونية. ومن آياتها الرفع المبالغ فيه من قدر الآخر العربي، وذلك بالنفخ فيه عن طريق الاستعمال المسرف لكل صيغ المبالغة في حقه؛ فهو أو هي الأكبر والأول والأعلم والأجمل... يقابل ذلك تضاؤل وتصاغر من جانب العروبي المغربي يصل حد الانمحاء. إنه في حضرة ضيفه العربي يكاد يعتذر عن وجوده ذاته. وأسوأ من ذلك أن العروبي المغربي راض بهذه التراتبية التي تجعل منه تلميذا أبديا، بل وقاصرا أبديا. وقصارى طموحه هو أن ينال عطف ورضى الأب-المعلم-الأخ الأكبر العربي. إنه مدرك في قرارة نفسه أنه لن يبلغ مبلغه أبدا؛ وهو مهما اجتهد ونبغ يظل محتاجا إلى المعلم ليجيزه ويعترف له بنبوغه؛ وهكذا تظل تراتبية الأعلى/الأدنى، السابق/اللاحق قائمة مهما بلغ شأو العروبي المغربي.

لإضاءة هذا الموقف النمطي للعروبي المغربي، أكتفي بعرض مثالين التقطتهما جزافا من بين ما لا يحصى من المشاهد والمواقف السخيفة التي تعج بها الوسائط المغربية. فأما أحدهما فإحدى حلقات البرنامج الترفيهي "نمغموتاي" الذي تقدمه القناة الأولى؛ وأما الآخر فمقالة يروي فيها أحد صحفيي جريدة "الصباح" وقائع لقائه المخرج السينمائي المصري أنور عكاشة.

كان موضوع الحلقة المعنية الاحتفاء بالممثل المغربي محمد مفتاح، الذي يبدو أنه نال بعض الاعتراف في المشرق العربي. وقد دعيت لشهود الحفل ممثلة أردنية من معارف الرجل. فكان منشطا الحلقة يستفتيان الفتاة الأردنية في صحة عروبة المغاربة، جاهدين لإقناعها بأن الدارجة المغربية لغة عربية مفهومة. ورغم الطابع الديبلوماسي لأجوبة الحسناء الأردنية، فإن تحفظها بدا واضحا حين أجابت بأن مرد ضحكها، عندما كان كوميدي مغربي يؤدي وصلة هزلية، إنما كانت حركاته المضحكة لا كلماته.

هكذا يبلغ شك المعربين المغاربة في عروبتهم حدا يحوجهم كل مرة إلى استصدار إقرار ممن يعدونهم عرب الدرجة الأولى.

ولن أحدثكم عن أشكال التودد والتزلف وألوان المدح والإطراء وصور التضاؤل أمام فتاة في مقتبل العمر، لا فضل لها إلا أنها من هناك. قالت سناء عكرود مخاطبة الأردنية - إنك فينا بمثابة حبة التوت من الكعكة-. وكلما ازدادت رغبة المغاربة في الوصال، استفحل خيلاء المشارقة وازدادوا دلالا وتيها. إنهم لن يسلموا بمساواة معربي المغرب بعرب المشرق حتى يلج الجمل في سم الخياط. وذلك لا لشيء إلا لأنهم يعلمون أن هؤلاء ليسوا عربا تحديدا وأنه لا يستوي الأصل والفرع، ولكن وبالأخص لأن الاعتراف لهم بالعروبة يعني الإقرار بالتساوي في العروبة، ومن ثمة سقوط التراتبية التي وصفناها أعلاه. وعليه، وحرصا من العروبيين المشارقة على تأبيد امتيازاتهم بصفتهم عربا الدرجة الأولى، يمنحون معربي المغرب نوعا من المنزلة بين المنزلتين، فلا هم عرب فيتساوون بهم، ولا هم غير عرب، أي شعب آخر، فيستقلون عنهم وتزول من ثمة حظوتهم. إنهم بعبارة أخرى يعاملون العروبيين المغاربة معاملة المؤلفة قلوبهم، يحسن إليهم طلبا لكسب ولائهم. هذا ديدنهم حتى حين يعقدون راية العروبة للمغربي خالد السفياني. وإذا كان مثل هذا الموقف الذي يقفه عروبيو المشرق مفهوما، لأنه بعد كل شيء يتسق والنزوع الطبيعي إلى الهيمنه، فإن ما ليس معقولا ولا مقبولا هو أن يقبل به معربو المغرب، بل ويتبنوه في تصورهم لأنفسهم وعلاقتهم بغيرهم. إن هذا القبول لا يمكن إلا أن يندرج فيما يمكن تسميته، محاكاة لنيتشه، بأخلاق الموالي.

ومن باب "وشهد شاهد من أهلها" كنت قرأت، يوما واحدا قبل يوم بث الحلقة موضوع الحديث، تصريحا لسينمائي مصري أوردته جريدة الصباح. تحت عنوان "دعوة مصرية إلى دبلجة الأفلام المغربية"، يدعو الناقد المصري طارق الشناوي فيما ترويه عنه "الصباح" إلى إرفاق الأفلام المغربية والجزائرية والتونسية بتعليق مبسط باللغة العربية حتى يتمكن العمل السينمائي من الوصول إلى عدد كبير من المشاهدين... ومن الأمور التي يركز عليها الشناوي هي أن غياب الدبلجلة يحول دون وصول عدة أعمال سينمائية، خاصة منها المغاربية، إلى قاعدة عريضة من الجمهور في العالم العربي. ويبقى المشكل المطروح في رأيه هو وجود تواصل من جهة واحدة، إذ في الوقت الذي تعد فيه اللهجة المصرية مفهومة من قبل شريحة واسعة من الجمهور العربي، لا يبذل المصريون إي مجهود للتعرف على إيقاعات اللهجات العربية الأخرى، وعلى رأسها اللهجات المغربية والتونسية والجزائرية... ويعاتب الشناوي على الإعلام المصري أنه لم يمنح الفن العربي ما يستحقه إذ لم يسبق للتلفزيون المصري عرض مسلسلات مغربية... ويدعو الشناوي إلى ضرورة التفكير في اقتراح المخرج الراحل صلاح أبو سيف الذي سبق أن طالب بأن يكتب على الشريط السينمائي الحوار بلغة مبسطة حتى يستوعبه كل الجمهور". انتهى كلام الناقد المصري كما روته الصباح. وخلاصته أن العالم العربي ليس عالما عربيا، وأن الشعوب العربية لا تفهم بعضها بعضا، وأن حب المعربين المغاربة للمشارقة هو حب من جانب واحد، وأن هذا ما يزيد المحبين المغاربة ولها وجنونا.

المثال الثاني الذي وعدت أعلاه بسوقه لإيضاح الموقف النمطي للعروبيين المغاربة من أوليائهم المشارقة هو ارتسامات حسن الحافظي، أحد صحفيي الصباح، على هامش حوار صحفي أجراه مع المخرج السينمائي أسامة أنور عكاشة. يقول: "وأنا أتحدث إلى الكاتب والمفكر العربي الكبير أسامة أنور عكاشة اقشعر بدني حين قال لي سعدنا كثيرا لما سمعناه على لسان الملك محمد السادس عن إطلاق الحريات... إن الحركة السياسية بالمغرب نشيطة ونحن نتابعها بشغف. اقشعر البدن وتمنيت لو أني أسمعه أينما حللت وارتحلت. لكن هذا الكلام حين يصدر عن رجل متتبع لكل ما يجري في الوطن العربي..." الخ، الخ.

فمن سجل الانبهار في المثال الأول، ننتقل إلى سجل الرهبة والخشوع واقشعرار الأبدان في المثال الثاني. إن الأمر يتعلق هاهنا بتجربة دينية صوفية عاشها المريد المغربي في حضرة الشيخ العربي المصري. وفي مثل هذه التجربة الروحية يقع تعليق ملكة العقل وتسقط معايير المنطق والواقع. هكذا ينسى الصحفي المغربي المفتون عن أمره أنه إنما هو بإزاء مثقف مصري رؤساء بلاده لا ينزاحون عن كرسي الحكم إلا بالموت العنيف أو الطبيعي. وينتخبون بنسبة تسعة وتتسعين في المائة وزيادة. ومثل هذا أيا كانت منزلته في بلاده أو حرفته ليس أهلا لتقييم التجربة السياسية المغربية ولا للإفتاء في الديمقراطية، لأنه لم يذق لها طعما أبدا، ولم يخبرها إلا كحلم بعيد المنال. ولو احتكم صاحبنا إلى العقل لولى وجهه وجهة غير التي ولاها. ولكنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

ان العروبيين المغاربة أحرار طبعا فيما يفعلونه في أنفسهم، لكن يحز في النفس أن يرى المرء مواطنيه يذلون أنفسهم وذويهم لغير شيء إلا لوهم ركبهم.

(ميمون أمسبريذ، لبجيكا)


 

Free Web Hosting